شكلت الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس إلى كل من لبنان وإسرائيل، ثم إيطاليا مثالاً مميزاً على الشجاعة والسرعة التي تتسم بها الدبلوماسية الأميركية، لكنها مع الأسف ورغم جهودها الحثيثة أغفلت الأهم وابتعدت عن الملح والمستعجل في اجتماع روما. وقد بدت خيبة الأمل تحديداً عندما قاومت "رايس" الاقتراحات التي تضع المفاوضات في نصابها الصحيح وتحدد الأولويات المعقولة المتمثلة في الاتفاق على وقف فوري لإطلاق النار بين الأطراف المتحاربة. فطيلة فترة زيارتها إلى الدول الثلاث أصرت كوندليزا رايس في أكثر من مناسبة على أن وقف إطلاق النار لن يتم إلا إذا صاحبته رؤية واضحة ومستدامة حول الحل الذي يعالج النزاع من جذوره، ويضمن عدم تجدد المواجهات الدامية مرة أخرى في جنوب لبنان. لكن يبدو أن "رايس" نسيت بأن حلاً مماثلاً لن يتأتى من دون مشاركة الأطراف جميعاً في مفاوضات طويلة تخرج باتفاق شامل لإنهاء الاقتتال، في الوقت الذي سيستمر فيه سقوط المدنيين الأبرياء، وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن استمرار تآكل الديمقراطية الهشة في لبنان. واستناداً إلى تجربتي الشخصية في الشرق الأوسط يمكني القول بأنه علينا التركيز في المدى القصير على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. فقد واجهت أزمات مشابهة مرتين خلال الأربع سنوات التي قضيتها كوزير خارجية الولايات المتحدة. وفي كلتا المرتين كانت إسرائيل تبادر بطلب الوساطة الأميركية لوضع حد للاقتتال بين الأطراف المتنازعة. كانت المرة الأولى في 1993 عندما ردت إسرائيل على إطلاق "حزب الله" لصواريخه على حدودها الشمالية بشن عملية المحاسبة التي أسفرت عن نزوح 250 ألف مدني من جنوب لبنان. وبعدما استمر القصف الإسرائيلي لعدة أيام طلب مني رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين استخدام اتصالاتي مع سوريا لإنهاء المواجهات. وفعلاً اتصلت بوزير الخارجية السوري آنذاك فاروق الشرع الذي أطلع الرئيس حافظ الأسد بالطلب الإسرائيلي، حيث تم في الأخير التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد أيام من المفاوضات جمعت بين الأطراف المعنية التزم فيه الجميع بوقف استهداف المدنيين على الجانبين. ورغم أننا لم نعرف قط ما فعلته سوريا على وجه التحديد، لكن المهم أن "حزب الله" سمع كلامها وأوقف إطلاق الصواريخ. وجاءت المرة الثانية عندما أطلق "حزب الله" مرة أخرى الصواريخ على شمال إسرائيل فردت هذه الأخيرة بشن عملية عناقيد الغضب متسببة في نزوح 400 ألف لبناني من ديارهم. وانتهت العملية بمأساة عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية، عام 1996 مخيماً للاجئين في قانا بجنوب لبنان أدى إلى مقتل مائة مدني وإثارة غضب الرأي العام الدولي ضد إسرائيل. وفي هذا المرة كذلك طلب مني رئيس الوزراء شمعون بيريز الذي خلف رابين بعد اغتياله التدخل لوقف المواجهات، حيث انخرطت الدبلوماسية الأميركية في جولات مكوكية بين دمشق وبيروت والقدس دامت ثمانية أيام وانتهت بالتوصل إلى اتفاق ينهي أعمال العنف من كلا الجانبين. وبعد أسابيع قليلة من ذلك التاريخ تمكنت الأطراف المعنية من إبرام اتفاق يقضي بتشكيل قوة لمراقبة الحدود تشمل إسرائيل وفرنسا ولبنان والولايات المتحدة. وإلى غاية الثلاثة أسابيع الماضية صمد الاتفاق طيلة العشر سنوات الماضية ونجح في منع اندلاع المواجهات مرة أخرى. فما الدروس التي نستخلصها من تلك التجارب السابقة؟ أولاً علينا أن نعرف بأنه كما كان الحال عليه سنة 1996 لا بد من أن يتصدر اتفاق وقف إطلاق النار أية جهود دبلوماسية أخرى تصاحبه مفاوضات بين الأطراف المعنية حول ترتيبات الوضع المقبل للمنطقة. وبالطبع سيكون وقف إطلاق النار صعبا دون تضمين المفاوضات ما يشير إلى وجود رغبة في إقرار حل دائم للأزمة المندلعة حالياً بين لبنان وإسرائيل. الدرس الثاني الذي نستخلصه من التجارب السابقة في المنطقة ويتعين على الدبلوماسية الأميركية الأخذ به هو الدور الأميركي المحوري في التوسط بين الأطراف المتحاربة والتوصل إلى اتفاق مرضٍ للجميع. فقد لجأ رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على إسرائيل إلى الولايات المتحدة دون سواها عندما أدركوا بأن الرد على "حزب الله" بدأ يؤتي نتائج عكسية. وواضح أن إسرائيل لا تثق سوى في الولايات المتحدة للتفاوض نيابة عنها والتوصل إلى اتفاق يراعي مصالحها. يضاف إلى ذلك أنه من خلال تجربتي السابقة في إحلال السلام بمنطقة البلقان، لا أرجح أن يقبل الأوروبيون بإرسال جنودهم ضمن قوات دولية لحفظ السلام في جنوب لبنان من دون مشاركة القوات الأميركية. وأخيرا علينا ألا ننسى الدور السوري في أي اتفاق لوقف إطلاق النار كما كان عليه الحال سنتي 1993 و1996. فرغم انسحاب القوات السورية من لبنان وانحسار تأثيرها على "حزب الله"، فإن سوريا مازالت تمثل الطريق الرئيسي الذي تمر منه خطوط الإمدادات "لحزب الله"، كما أن العديد من زعماء "حزب الله" يعيشون في دمشق ما يجعل سوريا الدولة الأكثر تأثيراً على الحزب بعد إيران. وفي هذا الإطار علينا استغلال الدعوة التي وجهتها دمشق إلى الولايات المتحدة للتفاوض كي نفتح المواضيع العالقة ونستأنف العلاقات الدبلوماسية التي قطعت بين الجانبين منذ أكثر من سنة. وليس أفضل من الجلوس إلى طاولة المفاوضات بين سوريا والولايات المتحدة إلى جانب الأطراف الأخرى، ذلك أنه كما في حالتي إيران وكوريا الشمالية لن يؤدي رفض التفاوض مع سوريا سوى إلى مزيد من الإحباط والفشل. وارين كريستوفر ــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزير الخارجية الأميركي الأسبق في الفترة ما بين( 1993 و1997) ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"